الأب المُربي المُثقف
الأب والمُربي المثقف
تكاد تُجمع كل المدارس التربوية المعنية بتربية الطفل على أهمية «القدوة» في حياة البُرعم الصغير، خاصة الوالدان اللذان يمثلان الواجهة النموذجية لسلوكيات الطفل، والمنبع الصافي الذي يكتسب منه القيم والتقاليد والأعراف الرصينة والعريقة، فعين الطفل دوماً تبحث عن النموذج في الوالد والجد والمعلم … وغيرهما من الرموز المؤثرة في حياته، تستقي منهم المعايير التي تكُوّن شخصيته الآتية والمستقبلية.
فالقدوة بالنسبة للطفل مصدر لمعرفة الصواب من الخطأ، وما هو مسموح به وما هو غير مسموح، والجائز واللائق والعيب، والحلال والحرام .. في منظومة سلوكية متشابكة – بل ومعقدة أحياناً – يكتسب الطفل كافة مفرداتها عن طريق التفاعل السلوكي اليومي، ووسط توجيهات القدوات في حياته تكتمل ملامح هذه المنظومة في شخصيته يوماً بعد يوماً، حتى تكون إنساناً سوياً يواجه معترك الحياة بخُطى ثابتة ونفسية مستقرة.
وكما هو العهد بصفات القدوة من النموذجية والمثالية قدر المستطاع، تنطبق هذه الشروط تماماً على القدوة التربوية، فالأب -مثلا- الذي يُمثل قمة الهرم في مسألة القدوة للإبن لابد أن يتحلى بسعة الأفق، والالتزام الصارم بالتعاليم والتوجيهات التي يصدرها، لأن مدار النجاح في العملية التربوية قائم على مبدأ «أفعل كما تراني أفعل»، وعار على المرء أن يخالف قوله فعله، فهذا من شأنه أن يسقطه من نظر الغير، فما بالنا بالطفل البريء الذي يوقعه التناقض بين الأقوال والأفعال في متاهة نفسية لا يخرج منها سالما أبدا.
ولا يفوتنا أن ننوه إلى أن احتراف الأب للغة الأوامر الخالية من التطبيق في خاصة نفسه من شأنه أن يقلب البيت إلى ثكنة عسكرية تكون لغة التواصل فيها قائمة على الأوامر الصارمة والتنفيذ دون أدنى مناقشة أو اقتناع، مما يعلي قيمة الكلام على قيمة الفعل، ويجعل من الطفل لصاً من نوع خفي ينضبط أمام الجميع ويتفلت في أقرب فرصة يغيب فيها عن الأنظار، وهذا من شأنه أن يخلق طفلاً مكدساً بالمشاكل السلوكية التي لا حصر لها، مثل: الهروب من المدرسة، والكذب، والسرقة، والعدوانية .. والكثير مما يطول ذكره.
ومن مقتضيات القدوة أن تتحلى بسعة الثقافة والمعرفة، هذا لأن العلم في نفسه قيمة تعلى من شأن الفرد، وتوسع مداركه وأفقه وتقوم سلوكه، مما يجعله يتعامل مع المواقف بإيجابية منقطعة النظير، ولذلك اهتمت الشريعة الإسلامية بالعلم اهتماماً بالغاً، والنصوص القرآنية والنبوية متكاثرة إلى حد لا يجهلها مسلم، فالعلم أساس المجد الذاتي والأممي، وكفى بالنفس طرباً أن تنسب للعلم، وكفاها غماً أن تلتصق بالجهل.
إذن فالقدوة التربوية في أمّس الحاجة للمعرفة بنفسيات الطفل ورغباته وفنون التعامل معه، إضافة إلى أن أهم حاجات الطفل من القدوة التي يلجأ إليها هي «المعرفة» .. تلك المعرفة الشمولية التي تجيبه عن كل الأسئلة التي تجول بخاطره، وما أكثرها تلك التفصيلات التي يحتاج الطفل إلى فهمها في رحلة استكشافه للبيئة من حوله، حتى أن الأمر قد يتطرق إلى أسئلة محرجة تحتاج لمهارة عالية في الإجابة عنها.
وكم هو شاق على الطفل ومؤلم لنفسيته أن لا يجد الإجابات التي يبحث عنها خاصة عند من يحب، في نفس الوقت فإنه نتيجة للسطحية الثقافية لبعض القائمين على المهمة التربوية يضطرون إلى نهر الطفل عندما يعييهم الجواب، ولا يجدون مخرجاً من شباك الأسئلة التي يطلقها البرعم البريء، وهذا الزجر والردود القاسية تزيد الطين بلة، وتترك في داخلة الطفل جروحاً نفسية من الصعب أن تندمل، وربما قضت بالكلية على ملكة التفكير والإقدام لديه، ورغبته النقية في البحث والاستكشاف لكل ما هو حوله، فنخرج للمجتمع «الطفل الآلة» الذي لا يسير إلا بمنظومة من الأوامر، ويعيش سليب الشخصية مفتقر دوماً إلى من يعوله في قراراته وسلوكياته، وينظم له كل تحركاته وتصرفاته.
وتتأكد الحاجة إلى «القدوة المثقف» في عصرنا الحديث الذي شملت التقنية فيه كل شيء من حولنا، وفي نفس الوقت تطورت معارف الطفل ومداركه نتيجة احتكاكه المباشر من الجوال والكمبيوتر والإنترنت وألعاب الفيديو جيم، وهذا بدوره يتطلب قدوة ملمة بتقنيات وروح العصر حتى لا يحس الطفل بضآلة القدوات في حياته الذين يدهم ينظرون أمامه إلى هذه التقنيات وكأنها ضربا من الأساطير في حين أن الطفل يتعامل معها ببراعة، مما يعني تبدل الأدوار، فيصبح الصغير متقدما والكبير متأخرا، وهذا من شأنه أن يخلف تشوش وبلبلة في العملية التربوية.
هذه المُعضلة تظهر بجلاء في الطفل المراهق، الذي ينظر للكبار من حوله وكأنهم من جيل عتيق وهو من جيل عصري، ولذلك فهم – من وجه نظره – لا يفهمونه، ولا يتجاوبون مع دوافعه العصرية، ويريدون أن يربوه على النمط القديم العتيق الذي تربوا عليه.. وغيرها من المبررات التي يختلقها المراهق في محاولة لاستساغة تمرده على أوامر الكبار، وشروده عن قافلة الأسرة أو المدرسة.
وتصوروا معي لو اصطدم المراهق العصري بأب يجهل تقنيات الحاسوب أو الإنترنت أو التعامل مع جوال متطور أو كمبيوتر لوحي، في حين أن هذا الشبل الصغير تكاد أنامله تلتهم هذه التقنيات بحثاً وإبداعاً، والأب المسكين يجلس بجواره مشدوها وهو يرى ابنه يتعامل مع هذه الآلات وكأنه ساحر بارع، بل يصل حد الإبهار أن يشيد به في المحافل وينوه في المنتديات العائلية ببراعته في التعامل مع هذه الأجهزة الحديثة، رغم أن الطفل لا يتقن هذه المهارات بشكل يفوق أقرانه، فالمشكلة ليست مشكلة مهارة الطفل ولكنها مشكلة جهل الأب أو الأم أو المعلم.
.
هنا تتعقد الأزمة بين المراهق والقدوة الجاهل، وتترسخ عنده تلك القناعة الخاطئة بأنه من جيل والكبار من جيل آخر لا يستوعب شباب العصر، وهنا يلجأ الحدث الصغير في رحلة البحث عن حل لمشكلاته لصديقه الذي هو في نفس الوقت أضعف خبرة وأقل تجربة، وعندها يصير المراهق كالمستجير من الرمضاء بالنار.
إن مسألة «ثقافة» القدوة التربوية تضيف إلى دوره جمالاً وبهاءً وهيبة، وهي خير معين للطفل لكي توجهه إلى الاستفادة من جنة التقنيات العصرية وتجنبه نارها وويلاتها، فما أجمل أن يستفيد الشاب من توجيهات الأب أو المعلم الحصيف في قطف ثمار المواقع الالكترونية الهادفة أو مقاطع البلوتوث البنائة أو تعلم المهارات الالكترونية الخلاقة التي تصقل موهبة تلك البراعم الإبداعية والفكرية.
لكن أن نرى أنفسنا كقدوات جاهلين وعاجزين في أعين صغارنا فهذا عين الغبن، وسحب للبساط من تحت أقدامنا، حتى ولو كان هذا بصورة جزئية إلا أنها خطيرة وغير مقبولة، خاصة وأن تعلم تلك المهارات العصرية من السهولة بمكان، وكما ذكرنا آنفا، أن الأب المثقف هو حصن أمان لأولاده من ويلات تلك التقنيات، وخير هادي لهم للاقتباس من كنوزها ونورها.